Menu

د. رمزي رباح يكتب للهدف : أبرز الاستراتيجيات وتكتيكاتها الكفاحية في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى 1987

د. رمزي رباح

الانتفاضة الاولى 1987.jpg

خاص بوابة الهدف

مما لا شك فيه أن الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 87، شكلت حالة نضالية كفاحية متميزة في النضال الوطني الفلسطيني، بل وتجربة فريدة حتى في تاريخ كفاح الشعوب من أجل الحرية والاستقلال، فقد اتسمت هذه الانتفاضة بخصائص وسمات فريدة سواءً من حيث طابعها الجماهيري، حيث شهدت مشاركة واسعة من مختلف شرائح المجتمع الفلسطيني ومن مختلف الاعمار ومن كلا الجنسين، بما في ذلك المشاركة الواسعة والمتميزة للمرأة الفلسطينية، والشباب والطلبة على وجه الخصوص، أو من حيث تكتيكاتها الميدانية ومستوى الإبداع في ابتكار وسائل المواجهة ضمن الظروف والمعطيات الميدانية في كل منطقة، وفي تطوير أدواتها وديناميكية ومرونة تنظيمها.

ولا يختلف اثنان على أن هذه الاستراتيجيات والتكتيكات كانت الركيزة الأساسية لنجاح واستمرارية الانتفاضة لسنوات طويلة. ويمكن إيجاز الهدف الاستراتيجي العام للانتفاضة كما حددته القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة "بالخلاص من الاحتلال والحرية وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض الفلسطينية المحتلة بعدوان 4 حزيران عام 67 بما فيها القدس العربية العاصمة للدولة الفلسطينية المنشودة". فيما ابتكرت الجماهير المنتفضة وقيادتها الموحدة " ذراع منظمة التحرير الفلسطينية في الأراضي المحتلة وتشمل كافة الفصائل الرئيسية في م. ت. ف، أشكال واساليب كفاحية جماهيرية وأدوات لمواجهة الاحتلال، بعض منها يمكن أن يندرج تحت استراتيجيات في المواجهة، والآخر تكتيكات تخدم هذه الاستراتيجيات، لذلك لا يمكن الحديث عن الاستراتيجيات بمعزل عن تكتيكاتها التي تخدمها وتتطور مع ظروف الميدان ومع متطلبات المواجهة اليومية، ومن ذلك:

  1. التنظيم القائم على الوحدة الوطنية والشراكة والوعي البرنامجي ووضوح الأهداف، أولى هذه الاستراتيجيات كانت تسليح الانتفاضة بعنصري التنظيم، والوعي بالأهداف، حيث لم ينفرد أي طرف بمخاطبة الجماهير وإنما تم تكريس الوحدة الوطنية عبر تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة والتي كانت تضم كافة فصائل م ت ف الفاعلة، بالإضافة لامتداداتها الفرعية ولجانها الشعبية وفرقها الضاربة، في كافة محافظات الوطن المحتل في الضفة وغزة والقدس. ووضوح الأهداف المنشودة للانتفاضة وتسليح الجماهير ببرنامج مواجهة يومي لخدمة هذه الأهداف عبر نداءات القيادة الموحدة التي كانت تصل كل بيت فلسطيني وتتلقفها الجماهير بلهفة.
  2. التدرج والمراكمة والتفاعل القيادي البرنامجي مع الميدان في تحديد البرنامج والمهمات النضالية المحددة، استناداً لمدى استجابة الجماهير للالتزام بالبرنامج الأسبوعي للمواجهة من جهة، وللتغذية الراجعة والتوصيات من الميدان فيما يخص الحالة النضالية أو الواقع الاجتماعي والاقتصادي. بمعنى الالتصاق القيادي بالميدان في تحديد المهمات النضالية والتدرج بسقفها استنادا للحالة الميدانية والمزاج الجماهيري. ومن أمثلة ذلك: التوقيت المدروس في المطالبة بوقف العمل داخل المستوطنات، مقاطعة الإدارة المدنية، مقاطعة محاكم الصلح، الدعوة لاستقالة الشرطة الفلسطينية وتحديد سقف زمني لذلك، تحديد ساعات فتح وإغلاق المحلات التجارية يومياً، أيام الاضراب الشامل دون تعثر الدراسة، التوقف عن دفع الضرائب.. الخ، وكل ذلك يندرج ضمن استراتيجية تهدف للوصول بالتراكم إلى العصيان المدني الشامل.
  3. التفاعل مع درجة التطور الميداني المتفاوت من منطقة إلى أخرى ومن أمثلة ذلك تثمين خطوة بيت ساحور في رفض دفع الضرائب وفي إحراق الهويات الإسرائيلية، والدعوة لتعميم هذه التجربة في باقي مدن وقرى ومخيمات الوطن.
  4. تفاعل نداءات القيادة الموحدة مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين والتي برزت في خضم الانتفاضة المتصاعدة، نتيجة الإغلاقات أو اعتقال رب الأسرة والمعيل، أو منع التجوال الطويل، أو الاستقالات والتوقف عن العمل في إسرائيل والمستوطنات، بالإضافة إلى القضايا التي تم تعليقها في المحاكم، وعليه فقد تم التركيز على قيمة التكافل الاجتماعي كقيمة نضالية اجتماعية ترسخت وتكرست خلال هذه الانتفاضة، وتشكيل أدوات تكفل إغاثة المحتاجين وإصلاح ذات البين بهدف تطويق وحل أية اشكالات اجتماعية، وذلك من خلال تشكيل لجان الاصلاح ولجان التكافل الاجتماعي، ولجان التموين في كافة المدن والقرى والمخيمات.
  5. الزخم الجماهيري حيث الحجر والمقلاع والمولوتوف والإطارات المشتعلة وسيلة جماهيرية نضالية في متناول يد الجميع في المواجهة اليومية مع جنود ومستوطني الاحتلال، بما يعني تكريس الطابع الشعبي الجماهيري من خلال تطويع وسائل المواجهة مع الاحتلال بما ينسجم مع أوسع درجات المشاركة الشعبية فيها بديلا للعسكرة التي كانت تقتصر على نخب محدودة .
  6. استراتيجية الإعلام الشعبي البدائي، من خلال استخدام الوسائل البدائية المتاحة، في التحريض وفي التوعية والتوجيهات، وفي تعميم المهمات النضالية، وفي تحذير المطلوبين للاحتلال عند الاقتحامات للمدن والقرى والمخيمات، حيث لم يكن هناك فضائيات أو وسائل تواصل اجتماعي وإعلام متطور كما هو اليوم، ولكن الانتفاضة ابتكرت أدواتها الخاصة لذلك الهدف ومن أبرزها: الكتابة على الجدران، حيث تحولت جدران المدن والقرى والمخيمات إلى صحف ثورية وتحريضية، وكذلك نسخ وتصوير نداءات القيادة الموحدة ميدانيا وتوزيعها الى كل بيت، واستخدام مكبرات الصوت اليدوية وسماعات المساجد في دعوات المواجهة وفي بث نداءات القيادة الموحدة، أو بيانات القيادات الفرعية المحلية. وكذلك فإن رفع الأعلام الفلسطينية على أعمدة وأسلاك الكهرباء كانت تشكل مهمة نضالية تحريضية هامة، حيث كان يشكل العلم الفلسطيني في تلك المرحلة استفزازاً كبيراً للاحتلال وجنوده، وفي المقابل كان يؤدي إلى رفع الحالة المعنوية وإلى تأجيج العاطفة الوطنية لدى المواطنين والشباب.
  7. اللجان الشعبية، بنية تنظيمية نضالية واجتماعية هامة خلال الانتفاضة، لقد كرست الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 87 بقيادتها الموحدة، وأدواتها الميدانية الموقعية، شكلا تشاركيا من السلطة الشعبية، سلطة الشعب الوطنية البديلة لسلطة الاحتلال، التي ابتدعت مؤسساتها الخاصة البديلة لمؤسسات الإدارة المدنية، وعليه فقد تم تشكيل آلاف اللجان الشعبية المتخصصة على امتداد مساحة الضفة والقطاع، ووفقاً لمتطلبات الحالة النضالية والاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن تصاعد الانتفاضة والمواجهة، وعن القمع الوحشي والحصار من قبل الاحتلال. وقد لعبت هذه اللجان دورا مهما في تكريس قيم التكافل والتعاضد والوحدة بين أوساط الجماهير من جهة، وفي التخفيف من الآثار الناتجة عن القمع والبطش والحصار وإغلاق المؤسسات التعليمية والصحية الفلسطينية، وفي تقديم خدمات نضالية واجتماعية كبيرة، ومن أمثلة هذه اللجان: " لجان التعليم الشعبي، لردم الفجوة الناتجة عن تعطيل الدراسة، وعن اقتحامات المدارس وتحويل الكثير منها إلى ثكنات عسكرية احتلالية، كان يشارك فيها على امتداد مساحة الضفة والقطاع آلاف المتطوعات والمتطوعين من طلبة الجامعات ومن المعلمين والمتقاعدين، وكانت تستخدم البيوت في الأحياء كصفوف تعليمية بديلة للمدارس المغلقة، لجان التكافل الاجتماعي، ولجان التموين، والتي لعبت دوراً كبيرا في التخفيف عن المواطنين خصوصا أثناء الإغلاقات والحصار ومنع التجوال، وفي توزيع المساعدات التموينية على الأسر الفقيرة والمستورة، وكذلك في التضامن مع المتضررين من قمع الاحتلال، ومع أهالي الشهداء والأسرى والجرحى. اللجان الصحية ولجان الإسعاف الأولي، حيث نشطت المؤسسات الصحية المختلفة في تخريج الآلاف من الشباب والشابات كمسعفين ميدانيين، وكذلك في أقامة أيام عمل طبي مجاني في القرى البعيدة، وفي أحياء المدن والمخيمات التي عانت من منع التجوال الطويل. لجان الاصلاح، من الوجهاء وكبار السن لتطويق أية اشكالات اجتماعية وحلها، وقد قامت هذه اللجان بدور كبير في تحقيق السلم الاجتماعي أثناء الانتفاضة. لجان الحراسة الليلية، وهي لجان نضالية انتشرت خلال الانتفاضة الكبرى في كل حي وفي كل زاوية من زوايا المخيمات والمدن والقرى مهمتها الرئيسية الحماية، والاستطلاع المتقدم والتحذير عبر مكبرات الصوت من أية اقتحامات ليلية لجنود الاحتلال لاعتقال المطلوبين والنشطاء، أو للتحذير من هجمات المستوطنين على الأحياء والقرى المتاخمة للمستوطنات، وكان يتناوب في عضويتها الآلاف من الشباب للإبقاء على حالة من اليقظة الدائمة لحماية الأحياء والمواطنين والمطاردين المطلوبين على وجه الخصوص.

وهناك بعض العوامل غير المباشرة وغير المرئية، أسهمت في تطوير الزخم الجماهيري للانتفاضة الكبرى، تتعلق بالحالة المعنوية وبتكريس قيم لم تكن موجودة ما قبل الانتفاضة وتطورت وتغيرت مع تصاعدها ومنها:

  1. كسر حاجز الخوف من الجندي الاحتلالي، حيث تحررت الجماهير بمختلف شرائحها من الخوف من جندي حرس الحدود الإسرائيلي، أو من جنود التشكيلات الجديدة التي أدخلها الاحتلال في ميدان المواجهة، وهذه الحالة المعنوية العامة مهدت لتصاعد المشاركة الشعبية في فعاليات الانتفاضة مع تقدم الوقت.
  2. التغير في النظرة التقليدية الموروثة للقيمة والمكانة الاجتماعية للمواطن الفلسطيني، سواءً في المدن أو القرى أو المخيمات، بحيث اكتسب المطارد، الشهيد، الأسير، الجريح، أو نشطاء الانتفاضة قيمة ومكانة اجتماعية كبيرة، واحترام وتقدير مجتمعي كان في السابق حكراً على ذوي الجاه والمال والنسب الاجتماعي الموروث من أيام الإقطاع. وهذا التغيّر القيمي شكل بالتأكيد حافزا لأبناء الفقراء والطبقة العاملة لكي يكونوا سباقين في الانخراط في الفرق الضاربة واللجان الشعبية المختلفة وفي المواجهة اليومية مع الاحتلال.
  3. تقبل المجتمع الفلسطيني لنزول المرأة للشارع، واضطلاعها بدور ميداني واسع ومتميز في مواجهة الاحتلال، وفي اللجان الشعبية المختلفة، وهو ما لم يكن متحققا في السابق. وهذا القبول الاجتماعي لانخراط المرأة في فعاليات الانتفاضة لم يقتصر على المدن أو التجمعات الكبيرة، بل شمل القرى والمخيمات كافة، فكان للمرأة الفلسطينية دوراً هاماً وبارزاً في كافة الفعاليات، بل وتميزت عن باقي القطاعات الأخرى في مجالات محددة مثل نقل المواد التحريضية"، مثل: الأعلام والبيانات" بين التجمعات السكانية وتوزيعها، بالإضافة لمشاركتها الفاعلة في اللجان الشعبية، كلجان الإسعاف والتكافل الاجتماعي والتعليم الشعبي والحراسة، وفي مهمة إعاقة وعرقلة جنود الاحتلال عند محاولتهم اعتقال رماة الحجارة من الشباب، حيث تمكنت المرأة الفلسطينية في كثير من الحالات من انقاذ هؤلاء الشبان وتحريرهم من أيدي الجنود.